تلخيص قواعد التفسير
التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية
في (( مقدمة في أصول التفسير))
1والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، إما قول عليه دليل معلوم،
وما سوى ذلك فإما
مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود.
2يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه
معاني القرآن كما بين لهم
ألفاظه، فقوله تعالى: (
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: 44)، يتناول هذا
وهذا.
ولهذا
كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين
أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم.
3وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم
والبيان فيه أكثر.
4
5الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام
أكثر من خلافهم في
التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف
تنوع لا اختلاف تضاد. وذلك صنفان:
أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير
عبارة صاحبه تدل على معنى
في المسمي غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنزلة
الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة.
6إن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من
صفاته، ويدل أيضاً على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم. وفى هذه قاعدة
أسماء الله وصفاته.
7فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى، عبرنا عنه بأي اسم
كان إذا عرف مسمى هذا الاسم.
8وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة
المختصة به فلا بد من قدر زائد على تعيين المسمى مثل أن يسأل عن القدوس السلام
المؤمن وقد علم أنه الله، لكن مراده ما معنى كونه قدوسا سلاما مؤمنا ونحو ذلك.
9إذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة
تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر. ومعلوم أن هذا ليس
اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس.
والناس وإن تنازعوا من اللفظ العام الوارد على سبب هل
يختص بسببه أم لا ، فلم
يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص
بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ، ولا
يكون العموم فيها بحسب اللفظ، والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً ونهياً فهي
متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته وإن كان خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة
لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته.
10وقولهم: (( نزلت هذه الآية في كذا)) يراد به تارة أنه
سبب النزول، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول عني
بهذه الآية كذا.
11وإذا ذكر أحدهم لها سبباً نزلت لأجله، وذكر الآخر سبباً،
فقد يمكن صدقهما بأن
تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين: مرة
لهذا السبب ومرة لهذا السبب، وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير- تارة
لتنوع الأسماء والصفات وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه كالتمثيلات- هما
الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف. ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون
اللفظ فيه محتملا للأمرين، إما لكونه مشتركاً في اللغة كلفظ: (( قسورة)) الذي يراد
به الرامي ويراد به الأسد، ولفظ : (( عسعس )) الذي يراد به إقبال الليل وإدباره ،
وإما لكونه متواطئا في الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين كالضمائر
في قوله: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (لنجم:8/9)
* فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في
ألفاظ القرآن فإما نادر وإما معدوم.
12والعرب تضمن الفعل معنى وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من
جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض.
13والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل، أو الذهول عنه، وقد
يكون لعدم سماعه، وقد يكون الغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح.
14الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل
فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك. إذ العلم إما نقل مصدق، وإما استدلال محقق، والمنقول
إما عن المعصوم
وإما عن غير المعصوم.
والمقصود بيان جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير
المعصوم وهذا هو
النوع الأول- فمنه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف،
ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول - وهو ما لا طريق لنا إلى الجزم بالصدق منه-
فالبحث عنه مما لا فائدة فيه والكلام فيه من فضول الكلام. وأما ما يحتاج المسلمون
إلى معرفته فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً.
15فمتي اختلف التابعون لم تكن بعض أقوالهم حجة على بعض،
وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحاً فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض
التابعين.
16وأما القسم الأول الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود
فيما يحتاج إليه ولله الحمد.
17فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب
الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره.
18والمراسيل إذا تعددت طرقها وخلت عن المواطأة قصداً أو
الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعاً.
19وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على
هذا الوجه من المنقولات ، وإن لم يكن أحدها كافياً إما لإرساله وإما لضعف ناقله.
20وهذا الأصل ينبغي أن يعرف ،فإنه أصل نافع في الجزم بكثير
من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير
ذلك.
21والمقصود أن الحديث الطويل إذا روي مثلاً من وجهين
مختلفين من غير مواطأة امتنع عليه أن يكون غلطا كما امتنع أن يكون كذباً .
22فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى
الله عليه وسلم قاله.
23ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر
الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له أو عملاً به أنه يوجب العلم.
24وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ
فإنهم أيضاً يضعفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطه فيها بأمور
يستدلون بها، ويسمون هذا: (( علم علل الحديث)) وهو من أشرف علومهم.
25والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم
ممن هو بعيد عن
معرفة الحديث وأهله لا يميز بين الصحيح والضعيف فيشك في
صحة أحاديث أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعاً بها عند أهل العلم به، وطرف
ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظاً في حديث قد رواه ثقة أو رأى
حديثاً بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى
إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة أو يجعله دليلاً في مسائل
العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط، ( وكما أن على الحديث أدلة
يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب يقطع بذلك).
26وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة، مثل الحديث
الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة فإنه موضوع
باتفاق أهل العلم.
27وأما النوع الثاني من سببي الاختلاف وهو ما يعلم
بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة
والتابعين وتابعيهم بإحسان.
28إحداهما : قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن
عليها.
والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده
بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلي المتكلم بالقرآن والمنزل
عليه والمخاطب به.
29والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه،
وأريد به، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وفي كلا الأمرين قد يكون
ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعني باطلاً فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول، وقد
يكون حقا فيكون خطؤهم فيه في الدليل لا في المدلول.
30والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأياً ثم حملوا ألفاظ
القرآن عليه، وليس لهم
سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا من أئمة
المسلمين، لا في رأيهم ولا في تفسيرهم.
31ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً ويدس البدع في
كلامه وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن
لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله.
32 وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم
إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعاً، وإن كان مجتهداً مغفوراً له خطؤة.
33ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما
سمعية كما هو مبسوط في موضعه.
34والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير وأن
من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه.
وفسروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما
أريد به وتأولوه على غير تأويله.
35وأما الذين يخطئون في الدليل لا في المدلول، فمثل كثير
من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة لكن القرآن لا
يدل عليها.
36إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن. فإن أعياك
ذلك فعليك بالسنة.
37وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا
في ذلك إلي أقوال الصحابة.
38وهذه الأحاديث الإسرائيلية على ثلاثة أقسام:
أحدها : ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق ،
فذاك صحيح.
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه. لا من هذا القبيل ولا من هذا
القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة
فيه تعود إلي أمر ديني.
39فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال
في ذلك المقام، وأن
ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف
وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فيشتغل به عن الأهم.فأما من
حكي خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في
الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً
،فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ كذلك من نصب
الخلاف فيما لا فائدة تحته. أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلي قول أو
قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتكثر مما ليس بصحيح ، فهو كلابس ثوبي زور.
40إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن
الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلي أقوال التابعين.
41وقال شعبة بن الحجاج وغيره: (( أقوال التابعين في الفروع
ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير)) يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن
خالفهم. وهذا صحيح ، أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة.
42فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام.
43فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به وسلك
غير ما أمر به، فلو أنه
أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأت
الأمر من بابه، كم حكم بين الناس عن جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس
الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ والله أعلم.
44فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة
على تحرجهم عن
الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بماذ
يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه. ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في
التفسير، ولا منافاة ؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire