lundi 30 décembre 2013

في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}

 في تفسير قوله تعالى‏:‏
‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ}


في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53-54‏]‏‏.

‏‏ وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آيتا النساء، قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48- 116‏]‏، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك أيضًا بنصوص القرآن واتفاق المسلمين‏.‏
وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خَصَّ فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علَّقه بالمشيئة فقال‏:‏ ‏{‏‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ ‏.‏
وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه كما تَرُدُّ على الوعيديَّة من الخـوارج والمعتزلة، فهي تَرُدُّ أيضًا على المرجئة الواقفية، الذين يقولون‏:‏ يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع، فإنه قد قال‏:‏ ‏{‏‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}‏‏ فأثبت أن ما دون ذلك هو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله‏:‏ ‏{‏‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ‏}، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله‏:‏ ‏{‏‏لِمَن يَشَاء}‏‏، فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هي لمن يشاء، دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس‏.
‏‏ وحينئذ، فمن غُفِر له لم يُعذَّب، ومن لم يُغْفَر له عُذِّب، وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضهم يغفر له، لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة، أو لا اعتبار بالموازنة‏؟‏ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم، بناء على أصل الأفعال الإلهية، هل يعتبر فيها الحكمة والعدل‏؟‏ وأيضًا، فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة، كما قد بسط في غير هذا الموضع‏ والمقصود هنا أن قوله‏:‏‏{‏‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏، فيه نهى عن القنوط من رحمة الله تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِل لأحد أن يقنط من رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمة الله‏.
‏‏ قال بعض السلف‏:‏ إنَّ الفقيه كل الفقيه الذي لا يُؤْيِس الناس من رحمة الله، ولا يُجَرِّيهم على معاصي الله‏.‏‏ والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له، إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول‏:‏ نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييأس من توبة نفسه، وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعترى كثيرًا من الناس‏.‏والقنوط يحصل بهذا تارة، وبهذا تارة، فالأول‏:‏ كالراهب الذي أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له، فقتله وكَمَّلَ به مائة، ثم دُلَّ على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته‏.
‏‏ والحديث في الصحيحين ‏.‏ والثاني‏:‏ كالذى يرى للتوبة شروطًا كثيرة، ويقال له‏:‏ لها شروط كثيرة، يتعذر عليه فعلها، فييأس من أن يتوب‏.‏وقد تنازع الناس في العبد‏:‏ هل يصير في حال تمتنع منه التوبة إذا أرادها‏؟‏ والصواب الذي عليه أهل السنة والجمهور‏:‏ أن التوبة ممكنة من كل ذنب، وممكن أن الله يغفره، وقد فرضوا في ذلك من توسـط أرضًا مغصوبة، ومن توسط جَرْحَى، فكيف ما تحرك قتل بعضهم‏؟‏‏!‏ فقيل‏:‏ هذا لا طريق له إلى التوبة‏.‏ والصحيح‏:‏ أن هذا إذا تاب، قبل الله توبته‏.‏

أما من توسط الأرض المغصوبة، فهذا خروجه بنية تخلية المكان وتسليمه إلى مستحِقِّه ليس منهيًا عنه ولا محرَّمًا، بل الفقهاء متفقون على أن من غصب دارًا وترك فيها قماشه وماله، إذا أمر بتسليمها إلى مستحقها فإنه يؤمر بالخروج منها، وبإخراج أهله وماله منها، وإن كان ذلك نوع تَصَرُّف فيها، لكنه لأَجْلِ إخلائها‏.

‏‏ والمشرك إذا دخل الحرم أمر بالخروج منه، وإن كان فيه مرور فيه، ومثل هذا حديث الأعرابي المتَّفَق على صحته لمَّا بال في المسجد فقام الناس إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تُزْرِموه‏"‏‏، أي لا تقطعوا عليه بوله، وأمرهم أن يصبوا على بوله دلوًا من ماء، فهو لما بدأ بالبول كان إتمامه خيرًا من أن يقطعوه، فيلوث ثيابه وبدنه، ولو زنا رجل بامرأة ثم تاب لنزع، ولم يكن مذنبًا بالنزع، وهل هو وطء‏؟‏ فيه قولان‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.

‏‏ فلو حلف ألاَّ يطأ امرأته بالطلاق الثلاث، فالذين يقولون‏:‏ إنه يقع به الطلاق الثلاث إذا وطئها تنازعوا‏:‏ هل يجوز له وطؤها‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ أحدهما‏:‏ يجوز كقول الشافعى‏.‏
*-والثاني‏:‏ لا يجوز كقول مالك، فإنه يقول‏:‏ إذا أَجزْتَ الوطء لزم أن يباشرها في حال النزع وهى محرمة، وهذا إنما يُجَوَّزه للضرورة، لا يجوزه ابتداء، وذلك يقول‏:‏ النزع ليس بمحرم‏.‏وكذلك الذين يقولون‏:‏ إذا طلع عليه الفجر وهو مولج فقد جامع، لهم في النزع قولان‏:‏ في مذهب أحمد وغيره‏.

*-وأما على ما نصرناه فلا يحتاج إلى شيء من هذه المسائل، فإن الحالف إذا حنث يكفر يمينه ولا يلزمه الطلاق الثلاث، وما فعله الناس حال التبيُّن من أَكْل وجَمَاع فلا بأس به، لقوله‏:‏‏{‏حتى‏}‏ والمقصود أنه لا يجوز أن يقنط أحد، ولا يُقَنِّط أحدًا من رحمة الله، فإن الله نهى عن ذلك، وأخبر أنه يغفر الذنوب جميعًا‏.

فإن قيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏} ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، معه عموم على وجه الإخبار، فدل أن الله يغفر كل ذنب؛ ومعلوم أنه لم يُرِدْ أن من أذنب من كافر وغيره فإنه يغفر له، ولا يعذبه لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإن هذا خلاف المعلوم بالضرورة والتواتر والقرآن والإجماع، إذ كان الله أهلك أممًا كثيرة بذنوبها، ومن هذه الأمة من عُذِّبَ بذنوبه، إما قدرًا، وإما شرعًا في الدنيا قبل الآخرة‏.

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏‏{‏‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏} ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7- 8‏]‏، فهذا يقتضى أن هذه الآية ليست على ظاهرها؛ بل المراد أن الله قد يغفر الذنوب جميعًا‏.
أي‏:‏ ذلك مما قد يفعله أو أنه يغفره لكل تائب، لكن يقال‏:‏ فَلِمَ أتى بصيغة الجزم والإطلاق في موضع التردد والتقْييد‏؟‏ قيل‏:‏ بل الآية على مقتضاها، فإن الله أخبر أنه يغفر جميع الذنوب، ولم يذكر أنه يغفر لكل مذنب، بل قد ذكر في غير موضع أنه لا يغفر لمن مات كافرًا، فقال‏:‏‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏} ‏[‏محمد‏:‏ 34‏]‏‏.
وقال في حق المنافقين‏:‏ ‏{‏‏سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏} ‏[‏المنافقون‏:‏ 6‏]‏،لكن هذا اللفظ العام في الذنوب هو مطلق في المذنبين، فالمذنب لم يتعرض له بنفي ولا إثبات، لكن يجوز أن يكون مغفورًا له، ويجوز ألا يكون مغفورًا له؛ إنْ أتى بما يوجب المغفرة غُفِر له، وإن أَصَرَّ على ما يناقضها، لم يُغْفَر له‏.‏
وأما جنس الذنب فإن الله يغفره في الجملة؛ الكفر والشرك وغيرهما، يغفرها لمن تاب منها، ليس في الوجود ذنب لا يغفره الرب تعالى، بل ما من ذنب إلا والله تعالى يغفره في الجملة‏.

وهذه آية عظيمة جامعة من أعظم الآيات نفعًا، وفيها رد على طوائف؛ رد على من يقول‏:‏ إن الداعي إلى البدعة لا تقبل توبته، ويحتجون بحديث إسرائيلي، فيه‏:‏‏(‏أنه قيل لذلك الداعية‏:‏ فكيف بمن أضللتَ‏؟‏‏)‏، وهذا يقوله طائفة ممن ينتسب إلى السنة والحديث، وليسوا من العلماء بذلك،كأبي على الأهوازى وأمثاله،ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة،وما يحتج به وما لا يحتج به، بل يَرْوون كل ما في الباب محتجين به وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب أحمد أو رواية عنه، وظاهر مذهبه مع مذاهب سائر أئمة المسلمين أنه تقبل توبته كما تقبل توبة الداعي إلى الكفر، وتوبة من فتن الناس عن دينهم‏.‏وقد تاب قادة الأحزاب مثل‏:‏ أبى سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبى جهل، وغيرهم بعد أن قُتِل على الكفر بدعائهم من قتل، وكانوا من أحسن الناس إسلامًا وغفر الله لهم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وعمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم لما أسلم‏‏ ‏"‏‏يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله‏؟‏‏"‏‏‏.‏

وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏‏أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}‏‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 57‏]‏، قال‏:‏ كان ناس من الإنس يعبدون ناسًا من الجن، فأسلم أولئك الجن، والإنس يعبدونهم ‏.‏‏ ففي هذا أنه لم يضر الذين أسلموا عبادة غيرهم بعد الإسلام لهم، وإن كانوا هم أضلوهم أولًا‏.

‏‏ وأيضًا، فالداعي إلى الكفر والبدعة، وإن كان أضل غيره، فذلك الغير يُعَاقَب على ذنبه؛ لكونه قَبِل من هذا واتبعه، وهذا عليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة، مع بقاء أوزار أولئك عليهم، فإذا تاب من ذنبه لم يبق عليه وزره ولا ما حمله هو لأجْل إضلالهم، وأما هم فسواء تاب أو لم يتب، حالهم واحد، ولكن توبته قبل هذا تحتاج إلى ضد ما كان عليه من الدعاء إلى الهدى، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة‏.‏
وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر ثم أسلموا وختم الله لهم بخير‏.‏ومن ذلك توبة قاتل النفس‏.‏والجمهور على أنها مقبولة‏.‏وقال ابن عباس‏:‏ لا تقبل‏. ‏‏ وعن أحمد روايتان‏.‏‏ وحديث قاتل التسعة والتسعين في الصحيحين دليل على قبول توبته، وهذه الآية تدل على ذلك‏.‏‏ وآية النساء إنما فيها وعيد في القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، ومع هذا فهذا إذا لم يتب ‏.

وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس، فبأي وجه يكون وعيد القاتل لاحقًا به وإن تاب‏؟‏ هذا في غاية الضعف، ولكن قد يقال‏:‏ لا تقبل توبته بمعنى أنه لا يسقط حق المظلوم بالقتل، بل التوبة تسقط حق الله، والمقتول مُطَالِبُه بحقه، وهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الديْن، فإن في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال "الشهيد يغفر له كل شيء إلا الديْن‏"‏‏ لكن حق الآدمي يُعْطَاه من حسنات القاتل‏.‏

فمن تمام التوبة، أن يستكثر مـن الحسنات حتى يكـون له ما يقابل حق المقتول، ولعل ابن عباس رأى أن القتل أعظم الذنـوب بعـد الكـفر، فلا يكـون لصاحبـه حسنات تُقَابِل حق المقتـول، فلابد أن يبقى له سيئات يعذب بها، وهذا الذي قاله قد يقع من بعض الناس، فيبقى الكلام فيمن تاب وأخلص،وعجز عن حسنات تعادل حق المظلوم، هل يجعل عليه من سيئات المقتول ما يعذب به‏؟‏ وهذا موضع دقيق، على مثله يُحْمَلُ حديث ابن عباس، لكن هذا كله لا ينافي مُوجِب الآية، وهو أن الله تعالى يغفر كل ذنب؛ الشرك، والقتل، والزنا، وغير ذلك من حيث الجملة، فهي عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص‏.‏

ومثل هذا قوله ‏:‏ ‏{‏‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏} ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏،عام في الأشخاص مطلق في أحوال‏.‏‏.‏‏.‏ الأرْجُل؛ إذ قد تكون مستورة بالخف واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال‏‏‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ‏} ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏، عام في الأولاد، عام في الأحوال؛ إذ قد يكون الولد موافِقًا في الدين ومخالفًا، وحرًا وعبدًا‏.واللفظ لم يتعرض إلى الأحوال‏‏‏ وكذلك قوله‏:‏‏{‏‏يَغْفِرُ الذُّنُوبَ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، عام في الذنوب مطلق في أحوالها، فإن الذنب قد يكون صاحبه تائبًا منه،وقد يكون مصرًا، واللفظ لم يتعرض لذلك، بل الكلام يبين أن الذنب يغفر في حال دون حال،فإن الله أمر بفعل ما تُغْفَر به الذنوب،ونهى عما به يحصل العذاب يوم القيامة بلا مغفرة،فقال‏:‏ ‏{‏‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 54 - 59‏]‏ فهذا إخبار أنه يوم القيامة يُعذِّب نفوسًا لم يغفر لها، كالتي كذبت بآياته واستكبرت وكانت من الكافرين، ومثل هذه الذنوب غفرها الله لآخرين لأنهم تابوا منها‏.

فإن قيل‏:‏ فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏‏؟‏ قيل‏:‏ إن القرآن قد بيَّن توبة الكافر، وإن كان قد ارتد ثم عاد إلى الإسلام في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 86 - 89‏]‏، وقوله ‏:‏ ‏{‏‏كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ‏} أي‏:‏ إنه لا يهديهم مع كونهم مرتدين ظالمين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏‏وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}‏‏، فمن ارتد عن دين الإسلام لم يكن إلا ضالًا، لا يحصل له الهدى إلى أي دين ارتد‏.‏‏ والمقصود أن هؤلاء لا يهديهم الله ولا يغفر لهم إلا أن يتوبوا‏.‏

وكذلك قال في قوله‏:‏ ‏{‏‏مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ‏} ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏، ومن كفر بالله من بعد إيمانه من غير إكراه فهو مرتد، قال‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏} ‏[‏النحل‏:‏ 110‏]‏‏.
وهو سبحانه في آل عمران ذكر المرتدين، ثم ذكر التائبين منهم، ثم ذكر من لا تقبل توبته،ومن مات كافرًا، فقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏90-91‏]‏‏.‏ وهؤلاء الذين لا تقبل توبتهم قد ذكروا فيهم أقوالًا؛ قيل‏:‏ لنفاقهم،وقيل‏:‏ لأنهم تابوا مما دون الشرك ولم يتوبوا منه، وقيل‏:‏ لن تقبل توبتهم بعد الموت، وقال الأكثرون، كالحسن وقتادة وعطاء الخراساني و السدى‏:‏ لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، فيكون هذا كقوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 137‏]‏، قال مجاهد وغيره من المفسرين‏:‏ ازدادوا كفرًا ثبتوا عليه حتى ماتوا‏.‏‏ قلت‏:‏ وذلك لأن التائب راجع عن الكفر، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفرًا بعد كفر، فقوله‏:‏ ‏{‏‏ثُمَّ ازْدَادُواْ‏}‏‏ بمنزلة قول القائل‏:‏ ثم أصروا على الكفر، واستمروا على الكفر، وداموا على الكفر، فهم كفروا بعد إسلامهم ثم زاد كفرهم ما نقص، فهؤلاء لا تقبل توبتهم، وهى التوبة عند حضور الموت؛ لأن من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب ورجع عن كفره، فلم يزدد، بل نقص؛ بخلاف المُصِر إلى حين المعاينة، فما بقى له زمان يقع لنقص كفره فضلًا عن هدمه‏.

وفي الآية الأخرى قال‏:‏ ‏{‏‏لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}، وذكر أنهم آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرًا، قيل‏:‏ لأن المرتد إذا تاب غُفِرَ له كفره، فإذا كفر بعد ذلك ومات كافرًا حبط إيمانه، فعوقب بالكفر الأول والثاني، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قال‏ "قيل‏:‏ يا رسول الله، أنؤاخذ بما عَمِلْنا في الجاهلية‏؟‏ فقال‏:‏ ‏من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أُخذ بالأول والآخر‏"‏‏، فلو قال‏:‏ إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا لم يكن الله ليغفر لهم، كان هؤلاء الذين ذكرهم في آل عمران فقال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}‏‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 90‏]‏، بل ذكر أنهم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا بعد ذلك، وهو المرتد التائب، فهذا إذا كفر وازداد كفرًا لم يُغْفَرْ له كفره السابق أيضًا، فلو آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، لم يكونوا قد ازدادوا كفرًا فلا يدخلون في الآية‏.‏

والفقهاء إذا تنازعوا في قبول توبة من تكررت ردته، أو قبول توبة الزنديق، فذاك إنما هو في الحكم الظاهر؛ لأنه لا يوثق بتوبته، أما إذا قُدِّر أنه أخلص التوبة لله في الباطن فإنه يدخل في قوله‏:‏ ‏{‏‏يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏

ونحن حقيقة قولنا أن التائب لا يعذب لا في الدنيا ولا في الآخرة، لا شرعًا ولا قدرًا، والعقوبات التي تقام من حدٍّ، أو تعزير، إما أن يثبت سببها بالبينة، مثل قيام البينة بأنه زنا أو سرق أو شرب، فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها، ولو دُرِئ الحد بإظهار هذا لم يقم حد، فإنه كل من تقام عليه البينة يقول‏:‏ قد تُبت، وإن كان تائبًا في الباطن، كان الحد مكفرًا، وكان مـأجورًا على صبره، وأمـا إذا جـاء هـو بنفسه فـاعترف وجـاء تائبًا، فهـذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد، نص عليه في غير موضع، وهى من مسائل التعليق، واحتج عليها القاضي بعدة أحاديث‏.

‏‏ وحديث الذي قال "أصبت حدًا فأقمه علىَّ، فأْقيمت الصلاة‏"‏‏ يدخل في هذا؛ لأنه جاء تائبًا، وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز والغامدية واختار إقامة الحد أقيم عليه، و إلاَّ فلا، كما في حديث ماعز "فهلاَّ تركتموه‏؟‏‏"‏‏ ‏.‏‏ و الغامدية ردها مرة بعد مرة‏.‏‏ فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا، ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه، كالذي يذنب سرًا، وليس على أحد أن يقيم عليه حدًا، لكن إذا اختار هو أن يعترف ويقام عليه الحد، أقيم، وإن لم يكن تائبًا، وهذا كقتـل الذي ينغمس في العدو هو مما يرفع الله به درجته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغفر له، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله‏؟‏‏"‏‏‏.

‏‏ وقد قيل في ماعز‏:‏ إنه رجع عن الإقرار، وهذا هو أحد القولين فيه في مذهب أحمد وغيره، وهو ضعيف، والأول أجود‏.‏‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار‏.‏ويقولون‏:‏ رجوعه عن الإقرار مقبول‏‏‏ وهو ضعيف، بل فَرْقٌ بين من أقرَّ تائبًا، ومن أقرَّ غير تائب، فإسقاط العقوبة بالتوبة كما دلت عليه النصوص أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار، والإقرار شهادة منه على نفسه، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار، فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقًا، فالرجوع الذي هو فيه كاذب أَوْلَى‏‏‏ آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين‏.



فصــل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}


فصــل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}
المفتي: شيخ الإسلام ابن تيمية
الإجابة:

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏} ‏[‏الطلاق‏:‏ 2- 3‏]‏ قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم"‏‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏مَخْرَجًا‏}‏‏ عن بعض السلف‏:‏ أي من كل ما ضاق علي الناس، وهذه الآية مطابقة لقوله‏:‏ ‏{‏‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏} ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها؛ وذلك أن التقوى هي العبادة المأمور بها، فإن تقوي الله وعبادته وطاعته أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقي الله مثال‏:‏ ‏{‏‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏‏، ومن يتوكل علي الله مثال‏:‏ ‏{‏‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏، كما قال‏:‏ ‏{‏‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}‏‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقال‏:‏‏{‏‏عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}‏‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏‏.‏‏ ثم جعل للتقوى فائدتين‏:‏ أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من حيث لا يحتسب

والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق، كما قال‏:‏ ‏{‏‏أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ}‏‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏ بدعائهم، وصلاتهم، واستغفارهم‏"‏‏ هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة‏.


وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي‏:‏ كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال‏:‏ ‏{‏‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏} ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ خلافا لمن قال‏:‏ ليس في التوكل إلا التفويض والرضا‏.‏ثم إن الله بالغ أمره، ليس هو كالعاجز، ‏{‏‏قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}‏‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏ وقد فسروا الآية بالمخرج من ضيق الشبهات بالشاهد الصحيح، والعلم الصريح، والذوق، كما قالوا‏:‏ يعلمه من غير تعليم بَشَرٍ، ويفطنه من غير تجربة، ذكره أبو طالب المكي، كما قالوا في قوله‏:‏‏{‏‏إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا}‏‏ ‏[‏الأنفال‏:‏29‏]‏ أنه نور يفرق به بين الحق والباطل، كما قالوا‏:‏ بصرًا، والآية تعم المخرج من الضيق الظاهر والضيق الباطن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏} ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏، وتعم ذوق الأجساد وذوق القلوب، من العلم والإيمان، كما قيل مثل ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء‏} ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏، وهو القرآن والإيمان‏.‏

فَصــل في تفسير قوله‏ تعالى:‏ ‏{‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏


فَصــل في تفسير قوله‏ تعالى:‏
 ‏{‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا  ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏
المفتي: شيخ الإسلام ابن تيمية

قوله‏:‏ ‏{‏‏وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 17‏]‏، يشبه قوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏} ‏[‏الزخرف‏:‏ 57- 58‏]‏، فيشبه والله أعلم أن يكون ضَرب المثل أنهم جعلوا المسيح ابنه، والملائكة بناته، والولد يشبه أباه، فجعلوه لله شبيهًا ونظيرًا، أو يكون المعني في المسيح‏:‏ أنه مَثَلٌ لآلهتهم؛ لأنه عُبِدَ من دون الله‏.

‏‏ فعلي الأول‏:‏ يكون ضاربه كضارب المثل للرحمن وهم النصارى والمشركون، وعلى الثاني‏:‏ يكون ضاربه هو الذي عارض به قوله‏:‏ ‏{‏‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}‏‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏، فلما قال ابن الزِّبَعرَي‏:‏ لأخصمن محمدًا‏.‏

فعارضه بالمسيح وناقضه به، كان قد ضربه مثلا قاس الآلهة عليه، ويترجح هذا بقوله‏:‏ ‏{‏‏مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا}‏‏، فَعُلِم أنهم هم الذين ضربوه لا النصارى‏.‏‏ فإن ‏[‏المَثَلَ‏]‏ يقال على الأصل وعلى الفرع، و‏[‏المثل‏]‏ يقال على المفرد ويقال على الجملة التي هي القياس، كما قد ذكرت فيما تقدم أن ضرب المثل هو القياس؛ إما قياس التمثيل فيكون المثل هو المفرد، وإما قياس الشمول فيكون تسميته ضرب مثلٍ كتسميته قياسًا، كما بينته في غير هذا الموضع، من جهة مطابقة المعاني الذهنية للأعيان الخارجية ومماثلتها لها، ومن جهة مطابقة ذلك المفرد المعين للمعني العام الشامل للأفراد، ولسائر الأفراد؛ فإن الذهن يرتسم فيه معني عام يماثل الفرد المعين، وكل فرد يماثل الآخر، فصار هذا المعني يماثل هذا، وكل منهما يماثل المعني العام الشامل لهما‏.

‏‏ وبهذا والله أعلم سمي ضرب مثل وسمي قياسًا، فإن الضرب‏:‏ الجمع، والجمع في القلب واللسان، وهو العموم والشمول، فالجمع والضرب والعموم والشمول في النفس معني ولفظًا، فإذا ضرب مثلا فقد صيغ عمومًا مطابقًا، أو صيغ مفـردًا مشابهًا، فتدبر هـذا فإنه حسن إن شاء الله‏.‏

ولك أن تقول‏:‏ كل إخبار بمَثَلٍ صوره المخبر في النفس، فهو ضرب مَثَلٍ؛ لأن المتكلم جمع مثلا في نفسه ونفس المستمع بالخبر المطابق للمُخبِر، فيكون المثل هو الخبر وهو الوصف، كقوله‏:‏ ‏{‏‏مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}‏‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 35‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ‏} ‏[‏الحج‏:‏73‏]‏‏‏‏ وبَسْطُ هـذا اللفظ واشتماله على محاسن الأحكام والأدلة قد ذكرته في غير هذا الموضع‏.

سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ {‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏


سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏

{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏

المفتي:شيخ الإسلام ابن تيمية


قد كتبْتُ بعض ما يتعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، قال المفسرون‏:‏ مات من الفزع وشدة الصوت ‏{‏‏مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏} أخبرنا أبو الفتح محمد بن على الكوفي الصوفي، أنا أبو الحسن على بن الحسن التميمي، ثنا محمد بن إسحاق الرملي، ثنا هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن عَياش، عن عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سأل جبريل عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}،، من الذي لم يشأ الله أن يصْعَقَهم‏؟‏ قال‏:‏ هم الشهداء متقلدين سيوفهم حول العرش‏.‏وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء وابن عباس‏.‏وقال مقاتل و السدي والكلبي‏:‏ هو جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت‏.‏‏ ‏{‏‏ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ‏} ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ يعني‏:‏ الخلق كلهم قيام على أرجلهم ‏{‏يَنظُرُونَ‏}‏ ما يقال لهم، وما يؤمرون به‏.‏‏ هذا كلام الواحدي في كتاب ‏[‏الوسيط‏]‏ بَينُوا لنا حقيقة الصُّعُوق، هل يطلق على الموت في حق المذكورين‏؟‏ وحقيقة الاستثناء‏؟‏ فأجاب‏:‏ الحمد لله الذي عليه أكثر الناس أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، وحتى عِزْرائِيل ملك الموت‏.‏وروي في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏‏ والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك، وقدرة الله عليه، وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم، ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب هذا العالم‏.‏


والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏، وقـال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26 - 28‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى}‏‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏‏.


‏‏ والله سبحانه وتعالى قادر على أن يميتهم ثم يحييهم، كما هو قادرعلي إماتة البشر والجن، ثم إحيائهم، وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.

‏‏ وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن غير واحد من أصحابه أنه قال "إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة غشي‏"‏‏ وفي رواية "إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا‏"‏‏ وفي رواية "سمعت الملائكة كجر السلسلة على صفوان، فيصعقون،فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم قالوا‏:‏ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏الحق،فينادون‏:‏الحق، الحق"‏‏‏.‏فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يصعقون صُعُوق الغشي، فإذا جاز عليهم صُعُوق الغشي جاز عليهم صعوق الموت، وهؤلاء المتفلسفة لا يجَوزون لا هذا ولا هذا، وصُعُوق الغشي هو مثل صعوق موسي عليه السلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا} ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏‏ والقرآن قد أخبر بثلاث نَفْخات‏:‏ نفخة الفَزَع‏:‏ ذكرها في سورة النمل في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏} ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏ونفخة الصعق والقيام‏:‏ ذكرهما في قوله‏:‏ ‏{‏‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}‏‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏‏.‏وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم، ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه‏.‏وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"إن الناس يصْعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسي آخذًا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أم كان ممن استثناه الله‏؟"‏‏، وهذه الصعقة قد قيل‏:‏ إنها رابعة، وقيل‏:‏ إنها من المذكورات في القرآن، وبكل حال النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسي هل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا‏؟‏ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجزم بكل من استثناه الله لم يمكنا أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بقرب الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر‏.‏

وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليم

﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً . فَالْحَامِلاتِ وِقْراً . فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً . فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً . إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ . وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴾ . ثم قال عز وجل : ﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ . وهذا ولا شك قسم من الله تعالى على هذا الأمر عظيم عظيم جدا . وقد اتفق السلف والخلف والأمة كلها على أن المراد بالذاريات هنا الرياح ، والوقر السحاب ، وقد اشتهر هنا في ذكرها في الأمة مسألة صبيغ التميمي لعمر رضي الله عنه ، تلك التي ضربه عليها ونفاه من المدينة وأمر بأن لا يجالس ولا يكلم ، حين سأل عن معنى ذلك . جاء في ذلك أثر لا أعتقد صحته إلا ما كان من أصل القصة ما بين عمر وصبيغ ، أما تفصيل التفسير ففيه نظر عندي بحكم رفعه ، فقد ورد به خطأ لا شك فيه عندي وهو المشهور عنهم ينسبونه كذلك بالتفسير لإبن عباس وغير ابن عباس ، حين قرروا في تفسير معنى " الجاريات " و " المقسمات " بغير الحق في الجاريات ، أما في المقسمات فمحتمل بل هو المتعين لكن السياق يقوي من أن الضمير عائد للسحاب نفسه ولو كان السحاب يقاد بجند الله تعالى من الملائكة فهي التي تسوقه كما هو معلوم حيث يشاء الله تعالى ، فالتقسيم هنا باعتبار ما يظهر لعلم البشر لا باعتبار ما خفى عن علمهم ، فمراد الله تعالى تيقن ذلك حين تحقق التأويل والملائكة بكل حال في هذا لن يراهم البشر ، وهذه فيصلية في تفسير المعنى هنا يجب التنبه لها . وقد تضمن المعنى في قوله عز وجل ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً . فَالْحَامِلاتِ وِقْراً ﴾ ، دلالة لطيفة كما على حمل الرياح للسحاب ، كذلك حملها للتراب وذره لا أقول بالعالم بل العالمين وعلى المعنى والتفسير الصحيح لمراد الله عز وجل بقوله ( العالمين ) في كذا موضع من كتابه العزيز ، وهي إشارة للعاصفة الصفراء والتي أنزل بذكرها سبحانه تفصيلا عظيما عجيبا وبين أنها ستكون من أشراط الساعة وعلامة من علامات تحقق بعث المهدي ، وهي كذلك مما فتح لها ملفات في هذا المنبر المبارك تراجع تحت هذه الروابط التالية : ما قصة العواصف الترابية التي تضرب الجزيرة العربية ؟ العاصفة الصفراء .جاهم هلا فبراير جانا غبراير ...


أما عن اتفاقهم على أن معنى " الجاريات " هنا أنها السفن فهذا باطله متيقن عندنا ورفع هذا التفسير للنبي صلى الله عليه وسلم لا يصح أبدا وهو من الكذب عليه صلوات ربي وسلامه عليه ، فإن من السفن ما يحمل المنكر والباطل فكيف يمكن إنزال قسم الله تعالى العظيم هذا على مثل هذا أبدا لايكون هذا إلا باطل ، وإنما قسمه هنا عائد للسحاب الجاري بأمره تعالى في السماء نفسه لا للسفن ، وهذه هي الأخرى فيصلية في تفسير المعنى هنا والتعريف به ويجب التنبه له كذلك .


وبهذا نفهم من هذه الآيات عظم تحقق تأويل هذا الأمر آخر الزمان حتى أن المولى عز وجل أقسم بذلك ، وأن الذاريات هنا المراد بها المرسلات في القرآن العظيم والتي تقرر ذكرها في هذا الموقع المبارك بملفات خاصة بها تراجع لمن يهتم بذلك ويؤمن به ويتيقنه ، وإلا ما وراء ذلك إلا تكذيب الله تعالى ورسله ، والذي جزائه الكفر ونار الجحيم .


وبهذا يجب أن يعلم المرء ويتيقن بأن أمر هذه المرسلات الذاريات قد فصل خبره بالذكر وعند الأنبياء وقد سبق نقل شيء من ذلك في بعض الملفات وبكتب الإمام عليه الصلاة والسلام ، ومن أروعها لفظا ومعنا ما أنزل الله تعالى على داوود نبيه في الزبور عليه الصلاة والسلام وهذا نصه بإيجاز :


" يا إلهي بددهم كالقش المتطاير وكالتبن في مهب الريح ، كما تحرق النار الغابة ، وكما يشعل لهيبها الجبال ، هكذا طاردهم بعاصفتك وأفزعهم بزوبعتك ، أملأ وجوههم خزيا " . " زبور داود عليه السلام "وقال نبي آخر وهو " ناحوم " عليه الصلاة والسلام :" الرب في الزوبعة وفي العاصف طريقه والسحاب غبار رجليه .. من يقف أمام سخطه ومن يقوم في حمو غضبه " . وغير هذا كثير يراجع في اماكنه


فَصْل في تفسير قوله تعالى:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏

فَصْل في تفسير قوله تعالى:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏
المفتي: شيخ الإسلام ابن تيمية


قوله تعالى في أول ما أنزل‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏} ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏} ‏[‏العلق‏:‏ 3‏]‏‏.‏

ذكر في الموضعـين بالإضافـة التي توجب التعريف، وأنه معـروف عند المخاطبـين، إذ الرب تعالى معروف عند العبد بدون الاستدلال بكونه خلق‏.‏وأن المخلوق مع أنه دليل وأنه يدل على الخالق، لكن هو معروف في الفطرة قبل هذا الاستدلال؛ ومعرفته فطرية، مغروزة في الفطرة، ضرورية، بديهية، أولية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ وإن كان خطابًا للنبى صلى الله عليه وسلم أولا، فهو خطاب لكل أحد، سواء كان قوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏} هـو خطاب للإنسـان مطلقًـا، والنبى صلى الله عليه وسلم أول مـن سمع هـذا الخطاب، أو من النوع، أو هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم خصوصًا، كما قد قيــل في نظائــر ذلك‏.‏‏ مثل قوله‏:‏ ‏{‏‏مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏، قيل‏:‏ خطاب له، وقيل‏:‏ خطاب للجنس، وأمثال ذلك‏.
‏‏ فإنه وإن قيل‏:‏ إنه خطاب له، فقد تقرر أن ما خوطب به من أمر ونهي فالأمة مخاطبة به ما لم يقـم دليل التخصيص وبهذا يبين أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ}‏‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏، يتناول غيره، حتى قال كثير من المفسرين‏:‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به غيره‏.‏

أي‏:‏ هم الذين أريد منهم أن يسألوا لِمَا عندهم من الشك، وهو لم يرد منه السؤال إذ لم يكن عنده شك ولا شك أن هذا لا يمنع أن يكون هو مخاطبًا ومرادًا بالخطــاب، بل هذا صريــح اللفـظ، فلا يجوز أن يقال‏:‏ إن الخطاب لم يتناولــه‏.‏‏ ولأن ليس في الخطــاب أنـه أمر بالسؤال مطلقًا، بل أمر به إن كان عنده شك، وهذا لا يوجب أن يكون عنـده شك‏.‏ولا أنـه أمـر بـه مطلقًا، بل أمر بـه إن كـان هــذا موجـودًا، والحكـم المعلق بشــرط عـدم عنـد عدمه‏.

‏‏ وكذلك كثير من المفسيرين يقول في قوله‏:‏ ‏{‏‏الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 147‏]‏، وفي قوله‏:‏ ‏{‏‏وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَّ‏} ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏، ونحو ذلك‏:‏ إن الخطاب لرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره‏.‏

أي‏:‏ غيره قد يكون ممتريا ومطيعًا لأولئك فنهي، وهو لا يكون ممتريًا ولا مطيعًا لهم‏.ولكن بتقدير أن يكون الأمر كذلك فهو أيضًا مخاطب بهذا، وهو منهي عن هذا‏.‏‏ فالله سبحانه قـد نهاه عما حرمـه مـن الشرك، والقـول عليه بـلا علم، والظلم، والفواحش‏.‏‏ وينهي الله له عن ذلك وطاعته لله في هذا استحق عظيم الثواب، ولولا النهي والطاعة لما استحق ذلك‏.‏ولا يجب أن يكون المأمور المنهي ممن يشك في طاعته ويجوز عليه أن يعصى الرب، أو يعصيه مطلقًا ولا يطيعه، بل الله أمر الملائكة مع علمه أنهم يطيعونه، ويأمر الأنبياء مع علمه أنهم يطيعونه، وكذلك المؤمنون كل ما أطاعوه فيه قد أمرهم به مع علمه أنهم يطيعونه‏.‏
ولا يقال‏:‏ لا يحتاج إلى الأمر، بل بالأمر صار مطيعًا مستحقًا لعظيم الثواب‏.‏ولكن النهي يقتضي قدرته على المنهي عنه، وأنه لو شاء لفعله، ليثاب على ذلك إذا تركه‏.‏وقد يقتضي قيام السبب الداعى إلى فعله فينهي عنه، فإنه بالنهي وإعانة الله له على الامتثال يمتنع مما نهي عنه إذا قام السبب الداعى له إليه ، وكذلك قد قيل في قوله‏:‏ ‏{‏‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 211‏]‏‏:‏ إنه أمر للرسول، والمراد به هو والمؤمنون‏.‏
وقيل‏:‏ هو أمر لكل مكلف‏.
‏‏ فقوله في هذه السورة‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ‏}‏ ، كقوله في آخرها‏:‏ ‏{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ‏} ‏[‏العلق‏:‏ 19‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}‏‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 9 ـ 11‏]‏، هذا متناول لجميع الأمة‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}‏‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 1- 2‏]‏، فإنه كان خطابا للمؤمنين كلهم‏.‏‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ}‏‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1- 2‏]‏ لما أُمِرَ بتبليغ ما أنزل إليه من الإنذار‏.‏وهذا فرض على الكفاية‏.، فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه وينذروا كما أنذر‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 122‏]‏ والجن لما سمعوا القرآن، ‏{‏‏وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}‏‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وإذا كان كذلك، فكل إنسان في قلبه معرفة بربه‏.‏فإذا قيل له‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}، عرف ربه الذي هو مأمور أن يقرأ باسمه، كما يعرف أنه مخلوق، والمخلوق يستلزم الخالق ويدل عليه‏.‏
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن الإقرار والاعتراف بالخالق فطرى ضرورى في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة‏.‏
وهذا قول جمهور الناس، وعليه حُذَّاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة، وتارة بالنظر، كما اعترف بذلك غير واحد من أئمة المتكلمين‏.‏ وهذه الآية أيضًا تدل على أنه ليس النظر أول واجب، بل أول ما أوجب الله على نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ‏}‏‏، لم يقل‏:‏ ‏[‏انظر واستدل حتى تعرف الخالق‏]‏‏.‏وكذلك هو أول ما بلغ هذه السورة، فكان المبلغون مخاطبين بهذه الآية قبل كل شيء ولم يؤمروا فيها بالنظر والاستدلال وقد ذهب كثير من أهل الكلام إلى أن اعتراف النفس بالخالق وإثباتها له، لا يحصل إلا بالنظر‏.
‏‏ ثم كثير منهم جعلوا ذلك نظـرًا مخصوصًا، وهو النظر في الأعراض، وأنها لازمـة للأجسام، فيمتنع وجود الأجسام بدونها‏.‏ قالوا‏:‏ وما لا يخلو عن الحوادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث‏.‏ثم منهم من اعتقد أن هذه المقدمة بينة بنفسها، بل ضرورية، ولم يميز بين الحادث المعين والمحدود وبين الجنس المتصل شيئًا بعد شيء؛ إما لظنه أن هذا ممتنع، أو لعدم خطوره بقلبه‏.‏لكن، وإن قيل هو ممتنع، فليس العلم بذلك بديهيًا‏.‏وإنما العلم البديهي أن الحادث الذي له مبدأ محدود كالحادث والحوادث المقدرة من حين محدود فتلك ما لايسبقها فهو حادث‏.‏‏ وما لا يخلو منها لم يسبقها فهو حادث‏.‏فإنه إذا لم يسبقها كان معها أو متأخرًا عنها‏.‏‏ وعلى التقديرين فهو حادث‏.‏‏ وأما إذا قدر حوادث دائمة شيئًا بعد شيء، فهذا إما أن يقال‏:‏ هو ممكن، وإما أن يقال‏:‏ هو ممتنع‏.‏‏ لكن العلم بامتناعه يحتاج إلى دليل، ولم تُعْلَم طائفة معروفة من العقلاء قالوا‏:‏ إن العلم بامتناع هذا بديهي ضرورى، ولا يفتقر إلى دليل‏.‏بل كثير من الناس لا يتصور هذا تصورًا تامًا، بل متى تصور الحادث قدر في ذهنه مبـدأ، ثم يتقدم في ذهنـه شيء قبـل ذلك، ثم شيء قبل ذلك، لكـن إلى غايــات محــدودة بحسب تقدير ذهنه، كما يقدر الذهن عددًا بعد عدد، ولكن كل ما يقدره الذهن فهو منته‏.
‏‏ ومن الناس من إذا قيل له‏:‏ ‏[‏الأزل‏]‏ أو‏:‏ ‏[‏كان هذا موجودًا في الأزل‏]‏، تصور ذلك‏.‏وهذا غلط، بل ‏[‏الأزل‏]‏ ما ليس له أول، كما أن ‏[‏الأبد‏]‏ ليس له آخر، وكل ما يومئ إليه الذهن من غاية فـ ‏[‏الأزل‏]‏ وراءها‏.‏وهذا لبسطه موضع آخر‏.‏والمقصود هنا أن هؤلاء الذين قالوا‏:‏ معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا‏:‏ لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام الجهمية القدرية ومن تبعهم‏.‏‏ وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه‏.‏‏ إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة‏.‏‏ ثم هذا النظر هذا الدليل للناس فيه ثلاثة أقوال‏:‏ قيل‏:‏ إنه واجب، وإن المعرفة موقوفة عليه، كما يقوله هؤلاء‏.‏‏ وقيل‏:‏ بل يمكن حصول المعرفة بدونه،لكنه طريق آخر إلى المعرفة‏.‏وهذا يقوله كثير من هؤلاء ممن يقول بصحة هــذه الطريقــة لكن لا يوجبها؛ كالخطأبي والقاضى أبي يعلى، وأبي جعفر السمنانى قاضى الموصل شيخ أبي الوليد الباجي وكان يقول‏:‏ إيجاب النظر بقية بقيت على الشيخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال‏.‏‏وهؤلاء الذين لا يوجبون هذا النظر‏.‏‏ ومنهم من لا يوجب النظر مطلقا كالسِّمْناني، وابن حزم وغيرهما‏.‏‏ ومنهم من يوجبه في الجملة، كالخطَّأبي، وأبي الفَرَج المقْدِسي‏.‏‏ والقاضى أبـو يعلى يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، بل ويقول تارة بإيجاب النظر المعين، كما يقوله أبو المعالى وغيره‏.‏ثم من الموجبين للنظر من يقول‏:‏ هو أول الواجبات، ومنهم من يقول‏:‏ بل المعرفة الواجبة به، وهو نزاع لفظى‏.‏‏ كما أن بعضهم قال‏:‏ أول الواجبات القصد إلى النظر، كعبارة أبي المعالى‏.‏‏ ومن هؤلاء من قال‏:‏ بل الشك المتقدم كما قاله أبو هاشم‏.‏ وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في موضع آخر، وبين أنها كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل أيضًا‏.

‏‏ وهذه الآية مما يستدل به على ذلك، فإن أول ما أوجب الله على رسوله وعلى المؤمنين هو ما أُمر به في قوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏‏}.‏‏ والذين قالوا‏:‏ المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، قالوا‏:‏ لو حصلت بغيره لسقط التكليف بها، كما ذكر ذلك القاضى أبو بكر، وغيره

فيقال لهم‏:‏ وليـس فيما قص الله علينا من أخبار الرسل أن منهم أحدًا أوجبها، بل هي حاصلة عند الأمم جميعهم‏.‏ ولكن أكثر الرسل افتتحوا دعوتهم بالأمر بعبادة الله وحده دون ما سواه كما أخبر الله عن نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وقومهم كانوا مقرين بالخالق لكن كانوا مشركين يعبدون غيره، كما كانت العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ومن الكفار من أظهر جحود الخالق، كفرعون حيث قال‏:‏ ‏{‏‏يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}‏‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏} ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏، وقال لموسى‏:‏ ‏{‏‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}‏‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36-37‏]‏‏.

‏‏ ومع هذا، فموسى أمره الله أن يقول ما ذكره الله في القرآن، قال‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 10 - 21‏]‏‏.‏

قال فرعون إنكارًا وجحدًا‏:‏ ‏{‏‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 23‏]‏، قال موسى‏:‏‏{‏‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا} ‏ الآيات ‏[‏الشعراء‏:‏ 24 ـ 28‏]‏‏.‏
وقد ظن بعض الناس أن سؤال فرعون ‏{‏‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}‏‏، هو سؤال عن ماهية الرب، كالذي يسأل عن حدود الأشياء فيقول‏:‏ ما الإنسان‏؟‏ ما الملك‏؟‏ ما الجنى‏؟‏ ونحو ذلك‏.‏ قالوا‏:‏ ولما لم يكن للمسؤول عنه ماهية، عدل موسى عن الجواب إلى بيان ما يعرف به وهو قوله‏:‏ ‏{‏‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}‏‏‏.

‏‏ وهذا قول قاله بعض المتأخرين وهو باطل‏.‏فإن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجَحْد، لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته، بل كان منكرًا له جاحدًا؛ ولهذا قال في تمام الكلام‏:‏ ‏{‏‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}‏‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏‏وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}‏‏‏.‏‏ فاستفهامه كان إنكارًا وجحدًا، يقول‏:‏ ليس للعالمين رب يرسلك، فمن هو هذا‏؟‏ إنكارًا له‏.‏
فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين، وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده‏.‏‏ وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم، كما قال موسى في موضع آخر لفرعون‏:‏ ‏{‏‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ‏} ‏[‏الإسراء‏:‏ 102‏]‏ ، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}‏‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.
‏‏ ولم يقل فرعون‏:‏ ومن رب العالمين‏؟‏ فإن ‏[‏من‏]‏ سؤال عن عينه يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه، كما يقال لرسول عُرف إنه جاء من عند إنسان‏:‏ من أرسلك‏؟‏ وأما ‏[‏ما‏]‏ فهي سؤال عن الوصف‏.‏يقول‏:‏ أى شيء هو هذا‏؟‏ وما هو هذا الذي سميته رب العالمين‏؟‏ قال ذلك منكرًا له جاحدًا‏.‏‏ فلما سأل جحدا أجابه موسى بأنه أعرف من أن ينكر، وأظهر من أن يُشك فيه ويرتاب‏.‏‏ فقال‏:‏ ‏{‏‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ}‏‏.‏ولم يقل‏:‏ ‏[‏موقنين بكذا وكذا‏]‏، بل أطلق، فأى يقين كان لكم بشيء مـن الأشـياء، فأول اليقين اليقين بـهذا الرب، كما قالت الرسل لقومهم‏:‏‏{‏‏أَفِي اللّهِ شَكٌّ‏} ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏ وإن قلتم‏:‏ لا يقين لنا بشيء من الأشياء، بل سلبنا كل علم، فهذه دعوى السفسطة العامة، ومدعيها كاذب ظاهر الكذب‏.‏
فإن العلوم من لوازم كل إنسان، فكل إنسان عاقل لابد له من علم؛ ولهذا قيل في حد ‏[‏العقل‏]‏‏:‏ إنه علوم ضرورية، وهي التي لا يخلو منها عاقل‏.‏‏ فلما قال فرعون‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏} ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏، وهذا من افتراء المكذبين على الرسول لما خرجوا عن عاداتهم التي هي محمودة عندهم نسبوهم إلى الجنون‏، ‏ولما كانوا مظهرين للجحد بالخالق، أو للاسترابة والشك فيه‏.‏

هذه حال عامتهم ودينهم، وهذا عندهم دين حسن، وإنما إلههم الذي يطيعونه فرعون، قال‏:‏ ‏{‏‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}‏‏ فبين له موسى أنكم الذين سلبتم العقل النافع، وأنتم أحق بهذا الوصف فقال‏:‏ ‏{‏‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}‏‏ فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق‏.‏ فلما ذكر أولًا أن من أيقن بشيء فهو موقن به، واليقين بشيء هو من لوازم العقل، بين ثانيًا أن الإقرار به من لوازم العقل‏.‏

ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه، فإن لم يعمل به صاحبه قيل‏:‏ إنه ليس لـه عقـل‏.‏ويقال أيضًا لمـن لم يتبع مـا أيقـن بـه‏:‏إنـه ليس له يقين‏.‏‏ فـإن اليقين أيضًا يراد به العلم المستقر في القلب ويراد به العمل بهذا العلم‏.‏فلا يطلق‏:‏ ‏[‏الموقن‏]‏ إلا على من استقر في قلبه العلم والعمل‏.‏وقوم فرعون لم يكن عندهم اتباع لما عرفوه،فلم يكن لهم عقل ولا يقين‏.‏وكلام موسى يقتضي الأمرين‏:‏ إن كان لك يقين فقد عرفته، وإن كان لك عقل فقد عرفته‏.‏‏ وإن ادعيت أنه لا يقين لك ولا عقل لك، فكذلك قومك، فهذا إقرار منكم بسلبكم خاصية الإنسان ومن يكون هكذا، لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الإلهية‏.‏ مع أن هذا باطل منكم، فإنكم موقنون بـه، كمـا قــال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}‏‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏‏ ولكم عقل تعرفونه به، ولكن هـواكم يصدكم عن اتباع موجب العقل، وهو إرادة العلو في الأرض والفساد‏.‏ فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار، كما قال أصحاب النار‏:‏ ‏{‏‏لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ‏[‏الملك‏:‏ 10‏]‏، وقال تعالى عن الكفار‏:‏ ‏{‏‏أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}‏‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏‏.‏قـال تعالى عـن فرعـون وقومـه‏:‏ ‏{‏‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}‏‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 54‏]‏ والخفيف‏:‏ هو السفيه الذي لا يعمل بعلمه، بل يتبع هواه‏.‏‏ وبسط هذا له موضع آخر‏.‏‏ والمقصود هنا أنه ليس في الرسل من قال أول ما دعا قومه‏:‏ إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق، فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه‏.‏‏ فلم يكلفوا أولا بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة، إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقر به، وكل مولود يولد على الفطرة، لكن عرض للفطرة ما غيَّرها، والإنسان إذا ذكر ذكر ما في فطرته‏.
‏‏ ولهذا قال الله في خطابه لموسى‏:‏‏{‏‏فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏} ‏[‏طه‏:‏ 44‏]‏،ما في فطرته من العلم الذي به يعرف ربه،ويعرف إنعامه عليه،وإحسانه إليه،وافتقــاره إليه، فذلك يدعوه إلى الإيمان،‏{‏أَوْ يَخْشَى‏}‏ ما ينذره به من العذاب،فذلك أيضا يدعوه إلى الإيمان‏.‏‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ‏} ‏[‏النحل‏:‏ 125‏]‏، فالحكمة تعريف الحق، فيقبلها من قبل الحق بلا منازعة‏.‏‏ ومن نازعه هواه وعظ بالترغيب والترهيب‏.‏فالعلم بالحق يدعو صاحبه إلى اتباعه؛ فإن الحق محبوب في الفطرة، وهو أحب إليها‏.‏‏ وأجل فيها، وألذ عندها من الباطل الذي لا حقيقة له؛ فإن الفطرة لا تحب ذاك‏.‏‏ فإن لم يدعه الحق والعلم به خوف عاقبة الجحود والعصيان، وما في ذلك من العذاب فالنفس تخاف العذاب بالضرورة فكل حى يهرب مما يؤذيه بخلاف النافع فمن الناس من يتبع هواه، فيتبع الأدنى دون الأعلى‏.‏
كما أن منهم من يكذب بما خوف به، أو يتغافل عنه، حتى يفعل ما يهواه‏.‏فإنه إذا صدق به واستحضره لم يبعث نفسه إلى هواها، بل لابد من نوع من الغفلة والجهل حتى يتبعه؛ ولهذا كان كل عاص لله جاهلا، كما قد بسط هذا في مواضع إذ المقصود هنا التنبيه على أن قوله‏:‏ ‏{‏‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}‏‏، فيه تنبيه على أن الرب معروف عند المخاطبين، وأن الفطر مقرة به‏.‏وعلى ذلك، دل قوله‏:‏ ‏{‏‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ}‏‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏، كما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع‏.‏
وكذلك قول الرسل‏:‏ ‏{‏‏أَفِي اللّهِ شَكٌّ}‏‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 10‏]‏، هو نفي، أى ليس في الله شك‏.‏ وهو استفهام تقرير يتضمن تقرير الأمم على ما هم مقرون به من أنه ليس في الله شك، فهذا استفهام تقرير‏.‏
فإن حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي كان تقريرًا، كقوله‏:‏ ‏{‏‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}‏‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ‏} ‏[‏البلد‏:‏ 8‏]‏، ‏{‏‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 70‏]‏، ومثله كثير‏.‏}} بخلاف استفهام فرعون، فإنه استفهام إنكار، لا تقرير؛ إذ ليس هناك إلا أداة الاستفهام فقط، ودل سياق الكلام على أنه إنكار‏.

‏‏ فإن قيل‏:‏ إذا كانت معرفته، والإقرار به ثابتًا في كل فطرة فكيف ينكر ذلك كثير من النظار نظار المسلمين وغيرهم وهم يَدَّعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية، فيقال أولا‏:‏ أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمه من الجهمية والقدرية‏.‏‏ وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم‏.‏‏ ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية‏.‏‏ فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين‏.

‏‏ الثاني‏:‏ أن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير شعور صاحبها بأنها قامت به‏.‏فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به‏.‏‏ وهذا كصفات بدنه، فإن منها ما لا يراه كوجهه وقفاه‏.‏ومنها ما يراه إذا تعمد النظر إليه كبطنه وفخذه وعضديه‏.‏‏ وقد يكون بهما آثار من خيلان وغير خيلان، وغير ذلك من الأحوال، وهو لم يره ولم يعرفه، لكن لو تعمد رؤيته لرآه‏.‏ومن الناس من لا يستطيع رؤية ذلك لعارض عرض لبصره من العشى أو العمى، أو غير ذلك‏.‏‏ كذلك صفات نفسه قد يعرف بعضها، وبعضها لا يعرفه‏.‏‏ لكن لو تعمد تأمل حال نفسه لعرفه‏.‏ومنها ما لا يعرفه ولو تأمل لفساد بصيرته وما عرض لها‏.‏والذي يبين ذلك‏:‏ أن الأفعال الاختيارية لا تتصور إلا بإرادة تقوم بنفس الإنسان‏.‏وكل من فعل فعلا اختياريًا وهو يعرفه فلابد أن يريده، كالذي يأكل ويشرب ويلبس وهو يعرف أنه يفعل ذلك، فلابد أن يريده‏.‏فالفعل الاختياري يمتنع أن يكون بغير إرادة‏.‏وإذا تصور الفعل الذي يفعله وقد فعله لزم أن يكون مريدًا له وقد تصوره‏.‏وإذا كان مريدًا له وقد تصوره امتنع ألا يريد ما تصوره وفعله‏.‏‏ فالإنسان، إذا قام إلى صلاة يعلم أنها الظُّهر، فمن الممتنع أن يصلى الظهر وهو يعلم هذا لم ينسه ولا يريد صلاة الظهر‏.‏‏ وكذلك الصيام إذا تصور أن غدًا من رمضان وهو مريد لصوم رمضان امتنع ألا ينوي صومه‏.‏وكذلك إذا أهل بالحج وهو يعلم أنه مهل به امتنع ألا يكون مريدًا للحج‏.‏

وكذلك الوضـوء إذا علم أنه يتوضـأ للصـلاة وهو يتوضأ امتنع ألا يكون مريدًا للوضوء‏.‏ومثل هذا كثير؛ نجد خلقًا كثيرًا من العلماء دع العامية يستدعون النية بألفاظ يقولونها ويتكلفون ألفاظًا، ويشكون في وجودها مرة بعد مرة، ويخرجون إلى ضرب من الوسوسة التي يشبه أصحابها المجانين‏.‏‏ والنية‏:‏ هي الإرادة، وهي القصد، وهي موجودة في نفوسهم لوجودها في نفس كل من يصلى في ذلك المسجد والجامع، ومن توضأ في تلك المطهرة‏.‏أولئك يعلمون هذا من نفوسهم ولم يحصل لهم وسواس، وهؤلاء ظنوا أن النية لم تكن في قلوبهم يطلبون حصولها من قلوبهم‏.

‏‏ وهم يعلمون أن التلفظ بها ليس بواجب، وإنما الفرض وجود الإرادة في القلب وهي موجودة ومع هذا يعتقدون أنها ليست موجودة‏.‏‏ وإذا قيل لأحدهم‏:‏ ‏[‏النية حاصلة في قلبك‏]‏ لم يقبل لما قام به من الاعتقاد الفاسد المناقض لفطرته‏.‏وكذلك حب الله ورسوله موجود في قلب كل مؤمن، لا يمكنه دفع ذلك من قلبه إذا كان مؤمنًا‏.‏وتظهر علامات حبه لله ولرسوله إذا أخذ أحد يسب الرسول ويطعن عليه، أو يسب الله ويذكره بما لا يليق به‏.‏

فالمؤمن يغضب لذلك أعظم مما يغضب لو سب أبوه وأمه‏.‏‏ ومع هذا، فكثير من أهل الكلام والرأى أنكروا محبة الله، وقالوا‏:‏ يمتنع أن يكون محبًا أو محبوبًا، وجعلوا هذا من أصول الدين، وقالوا‏:‏ خلافًا للحلولية، كأنه لم يقل بأن الله يحب إلا الحلولية‏.‏‏ ومعلوم‏:‏ أن هذا دين الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، وأهل الإيمان أجمعين وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، كما قد بسطناه في مواضع‏.‏فهذه المحبة لله ورسوله موجودة في قلوب أكثر المنكرين لها، بل في قلب كل مؤمن وإن أنكرها لشبهة عرضت له‏.‏‏ وهكذا المعرفة موجودة في قلوب هؤلاء‏.‏‏ فإن هؤلاء الذين أنكروا محبته هم الذين قالوا‏:‏ معرفته لا تحصل إلا بالنظر، فأنكروا ما في فطرهم وقلوبهم من معرفته، ومحبته‏.‏ثم قد يكون ذلك الإنكار سببًا إلى امتناع معرفة ذلك في نفوسهم وقد يزول عن قلب أحدهم ما كان فيه من المعرفة والمحبة فإن الفطرة قد تفسد فقد تزول، وقد تكون موجودة ولا ترى ‏{‏‏فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}‏‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏‏.

‏‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30-31‏]‏‏.
‏‏ وفي الصحيحين، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء‏"‏‏، ثم يقول أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏‏فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}‏‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.

‏‏ والفطرة تستلزم معرفة الله، ومحبته، وتخصيصه بأنه أحب الأشياء إلى العبد وهو التوحيد‏.‏وهذا معنى قول‏:‏ ‏[‏لا إله إلا الله‏]‏، كما جاء مفسرًا‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على هذه الملة‏)‏، وروى‏:‏ ‏[‏على ملة الإسلام‏]‏‏.‏ وفي صحيح مسلم، عن عياض بن حمار؛ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال "يقول الله تعالى‏:‏ إنى خلقت عبادى حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وَحَرْمَتْ عليهم ما أَحْلَلْتُ لهم، وأَمَرَتْهُمْ أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا‏"‏‏‏.‏فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب، ومحبته، وتوحيده‏.‏
فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله‏)‏‏.‏‏ فإن في هذه الكلمة الطيبة التي هي ‏{‏‏كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء‏} ‏[‏إبراهيم‏:‏ 24‏]‏، فيها إثبات معرفته والإقرار به‏.‏وفيها إثبات محبته، فإن الإله هو المألوه الذي يستحق أن يكون مألوهًا؛ وهذا أعظم ما يكون من المحبة‏.‏وفيها أنه لا إله إلا هو‏.‏ففيها المعرفة، والمحبة، والتوحيد‏.‏‏ وكل مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها‏.‏ولكن أبواه يفسدان ذلك فيهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، ويشركانه‏.‏ كذلك يجهمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده‏.، ‏‏ ثم المعرفة يطلبها بالدليل، والمحبة ينكرها بالكلية‏.‏والتوحيد المتضمن للمحبة ينكره من لا يعرفه، وإنما ثبت توحيد الخلق، والمشركون كانوا يُقرون بهذا التوحيد وهذا الشرك‏.‏فهما يُشرّكانه، ويُهودانه، ويُنصرانه، ويُمجسانه‏.‏
وقد بسط الكلام على هذا الحديث وأقوال الناس فيه في غير هذا الموضع‏.‏‏ وأيضا، مما يبين أن الإنسان قد يخفي عليه كثير من أحوال نفسه، فلا يشعر بها‏.‏ إن كثيرًا من الناس يكون في نفسه حب الرياسة كامن لا يشعر به، بل إنه مخلص في عبادته وقد خفيت عليه عيوبه، وكلام الناس في هذا كثير مشهور؛ ولهذا سميت هذه‏:‏ ‏[‏الشهوة الخفية‏]‏‏.‏قال شداد بن أوس‏:‏ يا بقايا العرب، إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية‏.‏قيل لأبي داود السجستاني‏:‏ ما الشهوة الخفية‏؟‏ قال‏:‏ حب الرياسة‏.‏‏ فهي خفية تخفي على الناس، وكثيرًا ما تخفي على صاحبها‏.
‏‏ بل كذلك حب المال والثروة، فإن الإنسان قد يحب ذلك ولا يدرى‏.‏بل نفسه ساكنة ما دام ذلك موجودًا، فإذا فقده ظهر من جزع نفسه وتلفها ما دل على المحبة المتقدمة‏.‏‏ والحب مستلزم للشعور، فهذا شعور من النفس بأمور وجب لها‏.‏‏ والإنسان قد يخفي ذلك عليه من نفسه‏.‏لا سيما والشيطان يغطى على الإنسان أمورًا‏.‏‏ وذنوبه أيضًا تبقى رينًا على قلبه قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏} ‏[‏المطففين‏:‏ 14- 15‏]‏ ‏.‏
وفي الترمذى وغيره عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة؛ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء"‏‏.‏فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه‏.‏ فذلك الران الذي قال الله‏"‏‏ ‏{‏‏كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}‏‏ قال الترمذى‏:‏ حديث حسن صحيح‏.
‏ومنـه قولــه تعالــى‏:‏ ‏{‏‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ}‏‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ وقـال‏:‏‏{‏‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}‏‏ ‏[‏الأعراف‏:‏102‏]‏‏.‏فالمتقون إذا أصابهم هذا الطيف الذي يطيف بقلوبهم يتذكرون ما علموه قبل ذلك، فيزول الطيف ويبصرون الحق الذي كان معلومًا،ولكن الطيف يمنعهم عن رؤيته‏.
‏قال تعالى‏:‏ ‏{‏‏وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏} ‏[‏الأعراف‏:‏ 202‏]‏‏.‏‏ فإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في غيهم، ‏{‏‏ثٍمَّ لا يٍقًصٌرٍونّ}‏‏، لا تقصر الشياطين عن المدد والإمداد، ولا الإنس عن الغى‏.‏فلا يبصرون مع ذلك الغى ما هو معلوم لهم، مستقر في فطرهم، لكنهم ينسونه‏.‏ولهذا كانت الرسل إنما تأتى بتذكير الفطرة ما هو معلوم لها، وتقويته، وإمداده، ونفي المغير للفطرة‏.‏فالرسل بعثوا بتقرير الفطرة وتكميلها، لا بتغيير الفطرة وتحويلها، والكمال يحصل بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة‏.‏