تفسير آيات البقرة
}اللُّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ : الْعَظِيمُ{البقرة/ 225
هذه الآية تمجّد الله تعالى، وتذكر صفاته، إبطالا لكفر الكافرين، وقطعا لرجائهم في الشفاعة بقوله: }مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ{. وقررت أولا التوحيد، وابتدأت باسم الألوهة وهو الله علم على ذاته، انفرد به، والعلم أعرف المعارف، لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو معونة، فكان اسم الجلالة أعرف المعارف على الإطلاق، وأخبر عن هذا الاسم بجملة: }لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ{، وهو خبر أول عنه، وقصد بها إثبات الوحدانية، ونفي أي إله آخر مزعوم، خبر آخر، وكذلك القيوم، قصد »
الحيّ «
وصفة بالحي إثبات الحياة، فلا تستحق الأصنام الألوهية لفقدها الحياة، وهذه الجملة مستقلة عما قبلها، مبينة لما تضمنته جملة: }ا لاَ إِلَهَ إِلاَّ
هُوَ{ من أنه القائم بتدبير شؤون الخلق، فلا مدبر غيره.
والحي في كلام العرب من قامت به الحياة وهي صفة بها يتم الإدراك والتصرف، وبها تنتفي صفة الجمادية والتنزيه عن صفات المخلوقات التي لا تدوم حياتها.
وفسر الزمخشري الحي بالباقي أي الدائم الحياة، فلا يعتريه العدم، وبهذا تبطل عقيدة المشركين في الجمادات، وهل يمكن أن يدبر شؤون العالم جماد لا حياة به؟
والحيّ صفة مشبهة من فعل: حَيِيَ، أما القيوم فهو فيعول من قام يقوم، صيغة مبالغة في القيام بشؤون الناس، كما قال تعالى }أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ{الرعد/ 33
ويعترف المشركون بأن الله مدبّر الأكوان، وإنما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء، وقررت جملة }لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ{ » الله الحي القيوم «
: مضمون جملة فهي بيان لمعنى الحي القيوم، فحياته لا تتوقف في سنة ولا نوم، وكذلك قيامه بتدبير شؤون الكون، والسِّنَة من الوسن وهو أول النوم، والنوم فتور يعتري أعصاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب فيميل الإنسان إلى الراحة بغياب الحس شيئا فشيئا إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها، فتحصل اليقظة، وبالنسبة لله فلا يوصف بذلك لكماله في حياته، ودوام تدبيره، لأن النوم ومقدمته يشبهان الموت يعوق عن التصرف والتدبير.
قوله }لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ{ يدل على انفراده بالألوهية فكل الموجودات مخلوقة له، ويملكها، ولذلك اتصف بالقيومية لأنه هو الذي يقوم بتدبيرها، وعدم إهمالها، واللام في قوله }لَّهُ{ لام الملك، والسموات والأرض يستغرقان أمكنة المخلوقات جميعا، فأفادت الجملة تعليم التوحيد وإبطال عقائد المشركين، وبذلك بطلت الشفاعة عنده التي لا تردّ لإبطال عقيدة الإشراك في شفاعة آلهتهم، فإنهم قالوا: }هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ ا {ّهللِ يونس/ 18
ولذلك دل قوله: }مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ{ على الإنكار والنفي، فلا يشفع عنده إلا من أراد وأذن له، وهو يعلم من يستحق الشفاعة عنده، فهو }يَعْلَمُ مَا بَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ{ أي يعلم ما وقع بعدهم، وما وقع قبلهم، ويمكن أن يكون المعنى أنه يعلم المستقبل، وهو ما بين أيديهم، ويعلم الماضي وهو ما خلفهم، فإن ما بين يدي الإنسان هو أمامه، يستقبله ويشاهده، ويسعى للوصول إليه، وما خلفه هو ما وراء ظهره، فهو قد تخلف عنه وانقطع ولا يشاهده، تجاوزه، والمراد علمه بسائر الكائنات، وسائر الأحداث والوقائع، وفي الآية تغليب العقلاء مما في الموجودات ومعنى هذا أن ،» خلفهم »
و »
أيديهم «
: بضمير العلم يشمل العقلاء وأحوالهم، وأحوال غير العقلاء من الكائنات.
ومعنى }يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ{ أي إحاطة تامة، بمعنى لا يعلمون علم اليقين شيئا من معلوماته، مما غاب عنهم من العلوم اللدنية، التي استأثر الله بها، وقوله: }إِلاَّ بِمَا شَاء{ إشارة إلى أنه قد يطلع بعض من اصطفاه الله بشيء من علمه الخاص به، كما قال: }عَالِمُ الْغَيْبِ فَ يظُْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحََدا إ مَنِ ارتْضََى مِن رسَُّولٍ{ .27- الجن/ 26 وقوله: }وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ{ تقرير لعظمة الله تعالى وعلمه، وقدرته، وعظيم سلطانه، فقيل إن الكرسي إشارة إلى سعة ملكه، وعظيم قدرته، وليس معنى الكرسي أنه شيء محسوس يجلس عليه، كما هو في عرف الناس، فإن الله منزه عن كل أمر محسوس متحيز محدود بالمكان أو الزمان.
}وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا{ آده، يؤوده بمعنى أثقله، وأعجزه، فإن الله لا يعجزه أن يحفظ ما خلقه من الموجودات في السموات والأرض، فإنه عليّ عظيم في قدرته، وعظيم في سلطانه.
اشتملت هذه الآية على أصول معرفة صفات الله، كما اشتملت سورة الإخلاص، وكلمة الشهادة، وردت أحاديث صحيحة في فضلها وفضل قراءتها، ويقول ابن عاشور رحمه الله فيها فضائل كثيرة مجرّبة للتأمين على النفس والبيت.
}لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللِّه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ
: لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللُّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ البقرة/ 256
يزعم بعض الناس أن القتال أو الجهاد إنما هو لأجل دخول العدو في الإسلام كرها، فبينت هذه الآية الكريمة وهي مدنية أنه لا إكراه في الدين ولا الدخول فيه بالقوة.
بعد بيان ما اشتملت عليه آية الكرسي من الوحدانية، وعظمة الخالق، وتنزيهه عن شوائب الوثنية والشرك، فذلك يدعو ذوي العقول النيّرة إلى قبول هذا الدين الواضحة عقيدته، العادلة شريعته، باختيارهم، فلا إكراه ولا جبر على ذلك، فالإكراه معناه حمل الإنسان على فعل شيء أو اعتقاد شيء كرها دون رضاه، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، فلا يجوز إكراه أحد على اعتناق الإسلام، والإيمان به قسرا، وهذا دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواع الإكراه، لأن الإيمان قائم على الاقتناع والاستدلال والتمكين من النظر والتفكير وبالاختيار، ولذلك بعد فتح مكة وتخليص الكعبة من أرجاس المشركين، وحقق الله تخليص بلاد العرب من الشرك أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال في الدفاع عنه، وتوسيع سلطانه، ويرى أمرت «
: ابن عاشور أنه نسخ الحديث المشهور أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا ولذلك علل عدم الإكراه على الدين ،» بحقها بقوله: }قَد تَّبَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ{ فالرشد وهو الهدي وسداد الرأي قد تبين، فلم يبق للغيّ والضلال مكان بعد أن تبين ذلك بدعوة الإسلام، وظهوره بدلائله ووضوحه في بلد مستقل، بعد الهجرة إلى المدينة المنورة.
فلم يبق بعد هذا الرشد إلا الكفر بالطاغوت، ولما تميز الرشد من الغي، فإن من أسلم فقد استمسك بالعروة الوثقى اختيارا لا إكراه فيه. والطاغوت يقصد به الأوثان والأصنام، ويسمي المسلمون الصنم بالطاغية، وجمعه طواغيت، وهو من مصطلحات القرآن، مشتق من الطغيان، وهو الغلو في الكبر، وهو من علامات الكفر، والتكبر، والظلم، ومعنى استمسك تمسك، ويدل حرفا السين والتاء على التأكيد مثل ؛ استجاب، }فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ{آل عمران/ 195 فالعروة الوثقى من الحبل الوثيق على حدّ تعبير الزمخشري، فهي عروة محكمة شديدة، ومعنى }لاَ انفِصَامَ لَهَا{ لا انقطاع، فالصم القطع، والاستمساك بهذا الدين استمساك بأوثق عروة
من حبل متين، مأمون الانقطاع، فالمؤمن ثابت اليقين لا يضطرب قلبه، ولا يتزعزع إيمانه، }وَا سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ يدل هذان الوصفان أن الله يعد بالثواب فهو سميع بإيمان من آمن وعلم بيقينه في إيمانه الوثيق، فله ثوابه وأجره يقينا.
}اللُّه وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم
مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
: خَالِدُونَ{البقرة/ 257
الذين كفروا بالطاغوت، وآمنوا بالله، فقد تولوا الله فأصبح وليا لهم، ويزيدهم هدى، فالولي هو الحليف ينصره مولاه، ويهديه إلى النور، نور الحق والبرهان، ويبعده عن ظلمات الكفر والشك، ويزيدهم يقينا، وتوغلا في الإيمان والنور، أما المشركون فيزدادون ضلالا وبعدا عن الحق والنور.__
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire